لم تكن توتة الخالة جليلة القائمة على بعد عدة أمتار من بيتنا الريفي مجرد شجرة وارفة الغصون ننتظر تدلي لآلئ التوت من أغصانها في مواسم الحصاد، يكاد عسلها يضئ بألوانها الزاهية. كانت رابطًا عضويًا توزع السعادة مع حفنات التوت على بيوت الحي البسيطة وتعود بما تيسر من فاكهة الموسم. تغير الزمان، ودهست أشجار الإسمنت شجرة التوت والروابط الاجتماعية، وتكفل تغير المناخ بما تبقى.
في مؤتمرات المناخ، لا توجد قمة حاسمة، منذ قمة برلين 1995 وكل مؤتمر يخطو بنا خطوة أو بضع خطوات على طريق طويل وصولاً لهدف مراوغ؛ يتحرك دومًا للأمام !!.
عند نشر هذا المقال، تكون قمة مؤتمر المناخ بدبي COP 28، قد قطعت نصف الشوط الزمني المقرر للاجتماعات، لكنها لن تقطع بالضرورة ذات المسافة على مقياس التوافق في حدث يعبر عن مدى التزام نحو مائتي دولة بحماية كوكب الأرض.
بدأت القمة بخطوة إيجابية، إذ أقرت في يومها الأول القواعد الأساسية لصندوق الخسائر والأضرار، لتتبقى التفاصيل ذات الصلة بحشد التمويل اللازم، وألا يبقى الصندوق فارغًا تصفر فيه ريح القرارات، إعمالاً للقول المشهور (الشيطان يكمن في التفاصيل).
خطوة.. تأتي استكمالاً لنجاح قمة شرم الشيخ 2022 في وضع بند "الخسائر والأضرار" على طاولة المفاوضات، تاركة للقمم التالية استكمال أركان البناء.
وفي غضون الأيام الماضية تجاوزت مساهمات الصندوق الأربعمائة مليون دولار، ساهمت فيها الإمارات بمائة مليون، بينما جاءت مشاركات أمريكا واليابان هزيلة ومشككة في توفير دعم سياسي يعول عليه مستقبليًا؛ 17,5 مليون، و10 ملايين، دولار على الترتيب.
ويتيح الصندوق -حال تفعيل دوره- للدول النامية وتلك الأشد تأثرًا يتغير المناخ تمويل خطط مواجهة تحديات المناخ سواء من خلال منح أو قروض ميسرة.
يأتي هذا في وقت ترى فيه الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، أيرينا، أن عدم تجاوز درجة حرارة الأرض 1,5 درجة مئوية بحلول عام 2030، يستلزم مضاعفة مستهدفات كفاءة الطاقة وتحقيق (هاتريك) الطاقة المتجددة (مضاعفة القدرات الحالية ثلاث مرات). هدف بالغ الطموح وصعب المنال في ظل ارتفاع تقديرات متوسط تكاليف مكافحة تغير المناخ إلى نحو أربعة تريليون دولار حتى عام 2050 وعدم توافر صناديق تمويل مرنة تتجاوب مع متطلبات السوق.
كانت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، IPCC، قد حذرت في تقريرها الصادر في مارس الماضي، من تفاقم ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض بعد ما بلغت 1.1 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، جراء أكثر من قرن قضاه الإنسان في حرق الوقود الأحفوري، واستخدام الطاقة والأراضي بشكل غير مستدام، يتعين معها تقليص الانبعاثات إلى النصف تقريبا بحلول عام 2030، مع دمج تدابير التكيف مع تغير المناخ مع إجراءات تقليل أو تجنب انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ووقف إزالة الغابات والأشجار.
تُرى ما الذي تعنيه هذه التوصيات لتوتة الخالة جليلة، ولشجرة الزيتون التي قطف منها أبو عمار غصنًا ذات يوم ورفعه على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة سائلاً العالم "لا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي"، ومن يومها والصغار يرسمون في الحصص المدرسية أغصان الزيتون ويحلمون بالسلام في عالم يحترف الجريمة.
ليس وحده المناخ -بمعناه الحرفي- الذي تغير. تغير المناخ السياسي، وكل المناخات التي نعرف. تلبد الفضاء بدخان الحرب والدمار. والخرائط التي رسمها الصغار بالطباشير الملون مسحتها الدبابات ورسمت بجنازيرها حدودًا جديدة.
ولسوف يخرجُ –ذات يوم- طفلٌ صغيرٌ من تحت الركام ويعيد بكَفٍ مُتربة رسم خريطة فلسطين، بينما تقبض يده الأخرى على بندقية. حفظ الله الوطن.